بقلم الإعلامي: خالد الفقيه.

سنوات سبع مرت منذ حمل إلينا الناعي صبيحة يوم كانوني خبر الرحيل المفجع للأب والقائد والمعلم الإنسان الدكتور أحمد المسلماني الذي لم يمهله القدر طويلاً ليترجل دون أن يكمل صولته التي بدأت ورسم معالمها دون أن تنتهي فأحلامه لم يكن لها خط نهاية كما كانت أفعاله.

بكيناه وأفتقدناه نحن من نحبه وترك في قلوبنا حسرةً ولوعةً تجبر مأقينا على ذرف دموعها كلما تذكرناه أو مررنا من جانب مكان مر به ذات يوم، فمروره لم يكن عابراً فنسيم الريح وعبق البنفسج يفوح من كل الزوايا في مكتبه المتواضع في مؤسسة لجان العمل الصحي التي بناها على كتفيه وأكتاف رفاقه الذين كان يحثهم حتى يومه الأخير على المزيد ولا يقبل بأقل مما هو من وجهة نظره متكامل ومن شأنه أن يعزز من صمود الناس الذين أحبهم وأحبوه من مخيم جباليا وحتى الأغوار الشمالية مرورا بالقدس والخليل ورام الله وقلقيلية ونابلس وبيت لحم.

أبا وسام لم يخسر المعركة مع الحياة وإن لم يكمل دورتها بل خسره شعبه وخسره رفاق الزنازين التي زجه الاحتلال الصهيوني فيها المرة تلو المرة، رفاق السجن الذين كانوا يفرحون كلما فتحت أبواب المعتقل إيذاناً بخروج أحدهم كانوا يفرحون كلما جاء أحمد إليهم معتقلاً مع علمهم أنه لن يطيل البقاء طويلاً فهو الصنديد الجسور ومدرسة الصمود والتحدي وهو الإنسان الطبيب بينهم وإن لم يكن بزي الطبي الأبيض وسطهم.

أسر لي صديق لبناني عايش حكيم القدس في الباستيلات الصهيونية كما يحب الأصدقاء أن يسموه بأن فرحهم كان شديد كلما جاء إليهم معتقلاً فهو القادم الجديد المحمل بأخبار من هم خارج زنازين العتمة وهو المعلم والمثقف الجذري الذي ما كان يلبث أن يعرف الزاوية التي ستكون له أو خصصت له حتى يبدأ جلساته الفكرية ودوراته الصحية وكأنه على رأس عمله في المؤسسة.

نهج أحمد الذي أرساه وعاند في سبيل ذلك كل المعوقات بات المصباح الذي يستنير به من بقوا بعده وتعداد مناقبه التي لا تحصى ولا تعد لا يتسع له هذا المقام ولكن مما يحسب للرجل أنه أرسى قواعد جديدة لم تكن معهودة في واقع مؤسسات المجتمع المدني وناضل بكل صلابة حتى يرسيها، فهو صاحب فكرة ضرورة مقاطعة التمويل المشروط ووثيقة مكافحة الإرهاب التي إبتدعتها بعض الجهات المانحة وعلى رأسها USAID  وغيرها والتي يستثنى بموجبها من خدمات المؤسسات الأهلية كل المناضلين والشهداء وذويهم، وهنا نتذكر كيف حول مكتبه الصغير لخلية نحل لا تهدأ حتى يمرر الموقف في شبكة المنظمات الأهلية.

نعم لقد كان الرجل ثاقب البصر والبصيرة لا تمر عليه صغيرة ولا كبيرة إلا وأخضعها للبحث والتحليل ليخرج بالموقف الذي يحسبه وطنياً بإمتياز مستنداً للبوصلة التي إتخذها نهجاص بدون مواربة.

رحل حكيم القدس وأبكانا وأفجعنا برحيله غير الموقوت على ساعة الزمن وهو المؤمن بأن المسيرة تكتمل ولا ترتهن بشخص واحد بمواصفات محددة فهو الإنسان الذي ينكر الأنا على نفسه الذي كنت تجده بين موظفيه يقاسمهم إفطارهم الصباحي البسيط وهو الفوضوي الذي يمر عنه الزائر الذي لا يعرفه ظناً منه أنه موظف بسيط فلا مكتبه مغلق ولا مركبته تشي بمن هو، وفي المسيرات المناهضة للاحتلال متقدم للصفوف غير آبه بما سيصيبه وكأنك تنظر لفتىً مليء بالعنفوان حاد المزاج جيفاري الإنتماء والعطاء، قناعته بأن العالم صليب دائري مركزه فلسطين والقدس التي أحب ونشأ وترعرع في أكنافها وتدثر في ترابها عندما إزف الرحيل.

في أخر أيامه كان حاد الطباع متعكر المزاج وهو يرى قوى شعبه السياسية تتناحر على سلطة لطالما رأى بها لا تلبي أدنى مستحقات النضال الوطني الطويل، تألم على الاقتتال ورحل وهو يتمنى أن يحل اليوم الذي تندمل فيه آثار الإنقسام والقسمة والسياسية التي حلت رحال لعنتها في فلسطين.